I.
اليوم كان ابن كلب مسخم وملعون. علمونا أن لا نشتم الدهر ولكن نحن فعلياً نقصد الأحداث, والله يعلم ما في القلوب. الاجتماع مع المديرة الساعة ٩ صباحا.. وطبعا فقت من النوم الساعة ثمانية ونص وخمسة ابرم واتمتم والطش هون وهناك, ستيانة, بلوزة, فرشاية أسنان, جرابات.. وين الجينز؟ يلعن ها- لبستهم اختي وطلعت على الجامعة وأنا نايمة…كإنه فش جينز في كل البيت إلا تبعوني, طيب, رح اورجيها لما تروّح -- فش وقت للردح يا بنت اتحركي. اللي بعده, انت يا بنطلون تعال البسني. صحيح رن المنبه بس رجعت أنام, رجعت للحلم. كنت أحلم فيه للمرة الثانية وحرارة جسمه لما احتضنا خدعتني وفكرت أن الحلم هو الحقيقة.
وصلت المكتب الساعة التاسعة الربع ٩، إنجاز عظيم. طليت على المديرة متوقعة أن تعبس بوجهي ولكنها فاجأتني بابتسامة صادقة:
"أهلين , صباح الخير. آه يلا. "
حضرت نفسي وجلست بمقابلها.
"إحنا بدنا نعمل تقليص.. فش تمويل واللي بوخدوا رواتب صعب نكمل معهم. "
وافقتها الرأي. كنت أنظر إليها ولا أرى سوى إبريق القهوة السادة الساخنة وسيجارة الصباح تلوّح لي.
سكتتْ ثم قالت: "يعني انتِ كمان . بس أنا متأكدة رح تحصلي على شغل تاني, هيّك بتكتبي منيح. بعدين معطيتك شهر ترتبي أمورك, منيح؟"
منيح . رسمت ابتسامة سخيفة على وجهي وهززت رأسي بشكل أوتوماتيكي. تصورت نفسي وانا أقلب المكتب على ظهره وأجعجع بأعلى صوتي ، ولكني بلعت الغصة الحامضة وتركت الغرفة..لم أهتم كثيراً لعملي هذا فلماذا أهتم الآن لتقليصي؟
ركبت سيارة سرفيس للبلد ..ومن هناك سرفيس آخر لسجن بيتونيا/ عوفر.. وبعد أول نقطة تفتيش سرفيس آخر لنقطة التفتيش الثانية. سمعني المجند المغفل البدين وأنا أتكلم بالإنجليزية مع صديقتي الكندية وسألني: من وين إنتِ؟
تجاهلته. كم مرة يجب أن يسلو أسئلة غبية؟! على الحواجز, عند نقاط التفتيش, على جسر اللنبي, وأحياناً أثناء المظاهرات السلمية.. أيعقل أن فتاة فلسطينية ترتدي الحجاب وتتقن اللغة الانجليزية! يا له من اندهاش عظيم!
أشارت المجندة لي أن أتبعها بعد ما أمروني بخلع جزمتي ووضعها على ماكينة الأشعة. لم أشعر أن الجحرة والشتائم الداخلية التي وجهتها لهم كافية.
تبعت المجندة إلى غرفة التفتيش الشخصي، بدأت تمرر ماكينة الفحص اليدوية بين رجلي أكثر من مرة.. أمرتني أن أرفع بلوزتي. رفعتها والحقد ينقط مني.. أما الكراهية فتمركزت في فتحة أنفي. سلمية سلمية, أجائتني رغبة أن أضحك بصوت عالي. أمسكت المجندة بستيانتي من الأمام وأدخلت أصابعها بالداخل وهي تنظر إلي، حدقتُ في وجهها ببرودة. أصابعها لازالت بالداخل. وانزلق الكلام بشكل تلقائي من فمي: "شو, شايفة من كبرهم أنه مهرّبة بلطة أو شاكوش؟!"
تجاهلت كلماتي وقالت لي: "لفي.." إستدرت برشاقة راقصة الباليه. رفعت رأسي وركزت بصري على الحائط. تبنيت اللغة الفصحى المبالغة والتي يستعملها الأشرار في مسلسلات الرسوم المتحركة وخاطبتها ذهنيا: "لن أهتم بك يا وسخة, لن أكترث لاستفزازك يا بغيضة."
انزلقت يداها بجيب البنطلون وهي تعصر وتدير أصابعها على مؤخرتي. نظرت إليها : "شكلك مستمتعة؟" رفعت حاجبها وابتسمت بشكل بارد ثم نطقت: "أوكي, يو كان جو ناو."
II.
مسحت يدي على قميصي وخرجت من الغرفة بكرامتي. ولم أشعرها أني تضايقت أو انحرجت أبدا. وصلت ساحة الانتظار حيث عائلات المعتقلين ينتظرون وقت محاكم أبنائهم.. تفاجأت عندما رأيت غرف المحاكم.. ما هي إلا عربات مثل كرفانات مستوطنة جديدة ..الحارس وراء السياج ابتسم لي وبعد ما أمرته (نعم, أمرته) بالانجليزي ( لا أحب مخاطبتهم بلغتنا ) أن يؤشر لي على العربة التي يحاكم فيها "فلان" اخبرني بكل نغاشة أنه لا يتكلم الا اللغة العربية.
تذمرت: "والنعم .. ازغرد واصقفلك يعني؟"
-نعم؟
-ولا شي .
لا أعرف في أي عربة ستجري محاكمة " فلان." اخذت افتح أبواب العربات ( عددها ستة ) واطل برأسي داخلها حتى لاحقني جندي وبدأ يصرخ في وجهي. حاولت تجنبه لكي لا أفقد أعصابي. تدخل الحارس الذي لا ينطق إلا اللغة العربية بسرعة ووجهني إلى العربة الأولى.
دخلت وكان فلان واقف, يرتدي زي سجن الاحتلال (الشاباص) يجيب اعلى اسئلة المحامي بكل هدوء..وكأن في هدوئه استحقاراً عميقاً ممتداً من المحكمة العسكرية للكيان الصهيوني بأكمله.
الجندي الذي كان يترجم من العبرية للعربية صغير السن ومن السهولة استحقاره, وكذلك القاضي الذي يجلس وعلامات الملل مرسومة على وجهه. المترجم والمحامي الفلسطيني تجادلا أكثر من مرة بخصوص الترجمة.
- سي في .. شو سي في؟؟
- يعني السيرة الذاتية بالعربي
- والكلمة العبرية؟
تدخل المعتقل فلان: اسمها سي في..مفيش كلمة إلها بالعبري.
رن هاتف المجند الآخر الذي كان في الغرفة وأجاب دون أن يخرج من غرفة المحكمة. المدعي تثاءب ونظر حوله بضجر ليعْلمنا بطريقته ما أنه هنا رغماً عنه وأنه يريد أن يكون في مكحمة مدنية في مدينة أخرى احتلها هو وأجداده. رفع القاضي رأسه قليلاً وهو يستمع للجندي الذي يترجم والمحامي الفلسطيني وهما يتخاصمان على كلمة أخرى تم ترجمتها بشكل فظ.
المعتقل مازال واقفا بكل هدوء والحارس ينظر إلينا نحن الحاضرون بكل ارتياب.
مسخرة.
خرجت ودخلت عربة ثانية, غرفة المحكمة رقم خمسة. هذه العربة أصغر بكثير وفيها عدد من المقاعد المنزوعة من مكانها. انتبهت لهذا لاحقا لأن عيني تجمدت على الفتية الثلاث خلف القفص بقربي.. والذين أيضا يرتدون زي الشاباص وايديهم وارجلهم مكلبشة.
لسعتني الآية القرآنية: " إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى".
أولاد صغار! عيونهم تتراقص بين محاميهم والقاضي وأهاليهم..حاولت أن أطمئنهم بإبتسامة أدركت كم هي سخيفة.. ولكن ماذا علي أن افعل؟! وعلى ماذا يمكنني طمئنتهم؟ على سنتين او ستة أشهر أو شهرين حبس مع كفالة؟ هؤلاء الأطفال يشكلون تهديداً وخطراً أمنياً على دولة النازية. صدق من قال ان اللص دائما ينظر وراءه بقلق وتوعك.
جلس والد أحد الاولاد بجانبي وكنا أقرب لهم وفوق ثرثرة القاضي والمحامي والمترجم, تحدث مع ابنه الذي كان أصغر واحد في المجموعة.
-محمد, كيفك يابا؟
-الحمدلله منيح
-امك وخواتك بخير وبسلموا عليك
-الله يسلمهم..سلم عليهم
-محمد بتنظم وقتك في السجن؟
-نعم؟
-بتنظم وقتك في السجن؟ تضيعش وقتك ضلك اقرأ
-آه عم بقرأ كتير
-في كتب كثير؟
-اه
نزق المترجم المجند, هدووووء! شيكيت!
تواصلت المحاكمة. هنا أيضاً يوجد جندي يتكلم ويلعب على تليفونه. همس الوالد بشكل حاد, مسخرة. ثم قال بصوت أعلى بقليل:
-محمد بعد ما ضربوك في سيارة الجيب, ضربوك كمان مرة؟
-لأ
-أكيد؟
-آه
-عندك اواعي وغيار؟
-آه
-من وين؟
-أعطوني أول ما دخلت القسم
-مين اللي أعطوك؟
-السجناء
-حاولنا نجيب اواعيك بس ما سمحولنا
-مش مشكلة
انتهت المحكمة بتأجيل الجلسة للأسبوع القادم . وقف الفتية. أسرع الوالد بآخر توصاية:
-توخذش أدوية منهم
-بعرف
-حافظ على صلاتك..ابعد عن اللي بدخنوا..دير بالك ابني
- سلام يابا
قبل أن نخرج جاؤوا بالفوج الثاني من المعتقلين. شباب في أوائل العشرينات من أعمارهم. حدقوا بنا، وضاق خلقي! احسست بلحظتها أنني صغيرة, تافهة, حشرة . اردت ان أتقيأ. جئنا لننتظر محاكمتهم وننظر اليهم كأننا في متحف ما وبعد ساعة نفترق. يرجعون إلى السجن ونحن نذهب إلى المقهى أو العمل أو البيت ونكتب عن التجربة من وجهة نظرنا وهي مازالت مطبوعة في ذاكرتنا الهاوية. هل يوجد أنانية أكبر من هذه؟ بلحظتها قلت لنفسي: كلنا في سجن واحد. أي سجن أكثر صعوبة؟ الزنزانة وساعة الساحة والكنتين والزي البني؟ أم السجن الأكبر المليء بالاوهام وحركة السير والمطاعم والأهالي وقيود المجتمع والفردانية بسبب عدم التأقلم مع كل هذا؟
من هو الأكثر صعوبة واكثر انضغاطاً؟
III.
أدركت لاحقاً أن من الممكن قد وقعت في فخ التفكير الليبرالي.
تذكرت عندما تجولت وسط المدينة عندما كنت في السنة الثانية من الجامعة لأسأل مجموعة عشوائية من الأفراد ماذا يعني لهم "السجن" وفقا لمشروع بحثي للجامعة. عندما سألت السؤال لصاحب مطعم وبار ركز مرفقيه على الطاولة وصمت لفترة. حاولت قراءة عينيه. هل عانى من تجربة الحبس أيام شبابه؟ هل سؤالي دفعه لتذكر التعذيب الذي تلقاه من الصهاينة؟ في النهاية نظر في وجهي, وقال ببطئ: السجن...هنا. أشار إلى رأسه. سقط فكي من مكانه. أغلقته وبلعت ريقي وانتظرته ليكمل.
"السجن..حالة ذهنية. احنا بنرسم لحالنا حدود وقوانين. عندما نحرر عقولنا, سوف نتحرر بالواقع."
تخيلت ردة فعل الأسرى إذا سمعوا ما قاله صاحب المطعم والبار. في المساء, عندما جلست وكتبت عن المشروع, اندرج كلامه في ورقتي تحت لعنة "الليبرالية."
فهمت وجهة نظره لاحقا, بعد الخروج من قفص الجامعة الذي يكبح ويمنع التفكير البديل ويدفعنا لتصنيف كل شيء بالأبيض والأسود. عرّف الفيلسوف السجن بأنه أكثر من مجرد حرمان الانسان من حريته, وضاف أن الروح تشكل حبس للجسم.
محمد ١٤ سنة. عندما انهالت عليه قوات الاحتلال بالضرب المبرح أثناء اعتقاله, كسروا تقويم أسنانه. محمد متفوق في دراسته. في برهة خاطفة, ابتسم لأبيه ثم خرج وعاد إلى السجن. بقي هناك شهرين بتهمة رمي الحجارة على المستعمرين. هنالك حالات لايمكن إلا ان تكون في سياق الأبيض والأسود. والحقيقة هي أن واقعنا عبارة عن كابوس مليء بالقضبان والسلاسل الخانقة.
عدت إلى رام الله. وصلت مكتبي. استقبلوني الأجانب الذين يعملون معي برواية أحداث ليلتهم الماضية يروون لي بالتفصيل الممل عن الحفلة الموسيقية (كنت حابة أحضرها ولكن لا أستطيع لأنها في القدس).
-كانت حلوة كتير .. لا لا كانت روعة..كتير انبسطنا.
سئمت منهم. كل مرة بعد يوم الجمعة أو يوم الاثنين يأتون إلى المكتب بكامل طاقتهم وإشراقهم يتكلمون عن مغامراتهم في حيفا أو يافا التي لا تخرج عن سياق البار والبحر والنوادي الليلية ..تخليت عن فكرة التحدث معهم بخصوص الحياء والحساسية والأخلاق الطيبة والقضية الشائكة (لم يفهموا) من اعلان ورواية رحلاتهم إلى بقية هذه البلد الملعونة لشعب الله المغضوب عليه والمتقوقع في كانتونات.
ذهبت إلى المطبخ وحضرت القهوة السادة. ركزت مرفقي على المجلى ونظرت من النافذة التي تطل على الساحة الخلفية للكنيسة المجاورة لبناية المكتب. في وسط الساحة, تمثال مريم العذراء ينظر للسماء.
وجه مريم المرمري يبدو منهكاً وصبوراً ومتناقضاً. عيناها الفارغتان تخاطبان السماء بأسى, وشفتاها مدموغتان بالرضا.
علمونا أن كل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ, وأن القدر لا يتزحزح إلا بالدعاء المستجاب. وتعلمنا أن هذه البلاد تجعل من المؤمن كافر, أو تلقيه في حفرة المصير: هكذا تدور الحياة, قضاء وقدر, كل شيء مكتوب, هل تعترض على حكم ربنا؟
نعم, أعترض. أعترض على سخافتكم واسترضاء نفوسكم المريضة بصب لعنة الكون علينا تحت تفسير القدر. جائتني رغبة في أن أدير تمثال العذراء إلى مكان آخر يطل على التلال والأفق الممتد للبحر والحياة, وليس إلى السماء. فكرت بلحظتها وقلت لنفسي: "إذا طلعتي من البلد إوعك ترجعي. إوعك ترجعي للكابوس والقيود والسجن الملموس والسجن الذهني."
IV.
ولكن..هل ينجو المرء من الحبس حتى اذا تركه؟
أمهات السجناء العزابية من "الفرسان الثمانية" في ٢٠١٢ أخبروني عن أمنيتهم لأولادهم عندما كانوا يرتجفون بين الحياة والموت في "مذبحة الرملة" (مستشفى السجن): "نفسي أزوجه لبنت حلال وأفرح فيه". وبعد خروجهم واستعاد عافيتهم من الإضراب ، قالولي بإستحياء اجابة لسؤالي عن خطتهم المستقبلية: "ان شاء الله سأتزوج وأربي عائلة وأبقى فعّال في قضية الأسرى."
اين هم الآن؟ انهم يقبعون. اعتُقلوا مرة أخرى عادوا يعدون أيام انتهاء مصيرهم.
وماذا عن محمد وأبيه؟ خرج محمد بعد شهرين مع كفالة. مرّت اكثر من سنة بعد تجربته واستشهد أخوه الأصغر منه سنا عُروة يوم ١٨ تشرين الأول. اقتحمت قوات الاحتلال قريتهم سلواد, ورصاصة القناص الاسرائيلي لقيت هدفها ومزقت شريان رقبته لتخرج من رأسه, ورشت الأرض بقطع من دماغه. كان الوالد في الولايات المتحدة, وأسرع الى جنازة ابنه.
-شو صار يا محمد؟
-تصاوب عُروة بس هيهم نقلوه للمستشفى
-شو صار يا محمد؟
-يابا...استشهد.
هل من مفر من كل هذا؟ قصصهم وروايتهم وتجاربهم واسمائهم واحلامهم وطموحاتهم واعتقالهم وحياتهم قبل الاعتقال وحياتهم أثناء الاعتقال وحياتهم بعد وحياتهم الآن..
كنت أعتقد أن "كل هذا" سيصبح ذكريات مغبرة بمجرد انتقالي لعالم آخر مليء بالأوهام والإلهاء المرحب، و لكن كل هذه الذكريات والمشاعر والقصص تجتاحني الان، لأجد نفسي على مركب قُذِف في بحر من أمواج الشك والاحتراس والتأملات.
لا, لا يوجد مفر. نحن من الأدباء والكتاب (والاضافة الأخيرة إلى المعجم-المدونين) أصحاب الحس الذاتي و-بين قوسين-النقطة المقيتة التى تجعل العالم يدور حولنا اخترنا الهروب من الواقع ومستنقع الاشمئزاز والموت والظلم والاضطهاد على عدة مراحل. ولذلك تأخرنا. تعمقنا كثيرا, وتعرقلنا هناك.
تخيلت الأسير فلان, الذي وقف بكل هدوء وتكتم في المحكمة وحاول يصحح الترجمة...تخيلته ينظر إلي من زنزانته (نعم, فهو أيضا تم اعتقاله بعد ثلاثة أشهر من خروجه) بشفقة ورثاء ويقول: استمري بالمنفى الاختياري, واستمتعي بهذه العاصفة التي لم ولن تفارقك أبدا. انها لعنة الدنيا, فلذلك اعفينا عن صراعك الداخلي. استمري بكتابتك الركيكة, فمن المعروف ان الفعل لن يأتي من اشكالك. البحر الهائج الوجيه الذي انتِ فيه أهون من السجن, الا تعلمين ذلك؟
No comments:
Post a Comment