Friday, August 1, 2014

(III) موسم الاجتياح, والكلاب

المنظر من بيتنا في مدينة غزة

المدينة تلتهب بموجة الحر هذا الاسبوع, ولكننا بالكاد لاحظنا وقلوبنا تحترق من أخبار بلادنا. من منا تُفضّل ان تترك هذا الوهم وتكون في وسط أحداث العدوان؟ نحن اللواتي لديهن أهل يعيشون باستمرارية تحت القصف والدمار والخوف وترقب الموت وعدم الأمن والأمان. بينما نحنفي بلاد المتحضرة التي استعمرتنا والسبب الرئيسي لمصيرنا اليوم-هذه المدينة الجافة والمشبعة من الكياسة المبالغة وحسن التعامل الذي لا يتجاوز المنظر الخارجي-نحاصر معاناتنا بعيدا عن الحضارة وتساؤلات الأصدقاء الذين لا يعرفوا, ولا يستطيعوا أن يتخيلوا حجم الألم والرهبة المتغلغل في أعماقنا. نقضي أيامنا بين جدران غرفنا في السكن, مدمنين على الأخبار ٢٤ ساعة كل يوم. مع كل تغريدة, مع كل "شير" لصورة على مواقع التواصل الاجتماعي, نذكّر ونكرّس في نفوسنا أسوأ شعور ممكن نختبره في ظل هذه الظروف: العجز. 

نحن غير قادرات على عمل أي شيء بينما أهالينا يتلقون الارهاب من كل الجهات دون أي رحمة. نحتقر أنفسنا. نخبئ انهيارنا العصبي-هذا سر ولكن نعمتمر علينا ايام لا نقدر أن نتحرك خارج غرفنالا نستطيع الأكل ولا النوم, نمشي من السرير للباب للسرير مثل السجين المحموم, او الحيوان في القفص, ونبكي بحرارة ثم نعلن أننا صرفنا كل دموعنا وليس لدينا الطاقة, القدرة, المروّة لنبكي مرة أخرى. نهرب من مشاعرنا. نكذب على بعض. أصبحنا محترفين بالكذب.

-بموت اذا صار اشي لستي او لبنت اختي
-ماما اتصلت علي تسألني وين يروحوا بعد ما أجالهم امر لإخلاء عمارتهم..وين يروحوا؟!
-مبارح الشجاعية واليوم خزاعة وبكرة وين رح تكون المجزرة؟ بستنى إسم عائلتي يطلع على الأخبار..يا رب..يا رب!



يا رب. يا رب احميهميا ربلو لا المقاومة كان فقدت أيماني. كان اعطيتك ظهري مثل حنظلة تماما وغرقت في محيط الصمت والبؤس والغضب والضياع والواقعية.


اتصلت بأهلي أخيرا.

عمتي تسكن في منطقة التوام, شمال غزة . أخلوا بيتهم, للمرة الثانية خلال سنتين. آخر مرة قضوا ليلة سوداء وهم منبطحون على بطونهم في الممر على الطابق الأول يدعوا ويتسلخطوا ويصرخوا . البيارة حد بيتهم انقصفت اكثر من اربعين مرة والبيت يرتفع وينزل . تكسرت الشبابيك . انخلعت الأبواب. شراشف النايلون اخذت مكان كل فتحة شباك . آثار الدمار كانت موجودة عندما زرتها بعد اسبوع من انتهاء العدوان في ٢٠١٢. 

(-اذا بدك تستخدمي الحمام حطي عصاية القشاطة على الباب عشان يتسكر حبيبتي)

هذه المرة, اتصلت على رقمها. مصطفى رد ولكن لم يتكلم الا بعد ما عرّفت على حالي -ولك انا لينة بنت خالك - وطمأن امه ان المتصلة منهم وليست من جيش الاحتلال تحمل تهديد.

-اه يا ماما , يا حبيبتي يا عمتو , احنا كويسين تقلقيش علينا بس تنسيناش بالدعاء .. ادعيلنا .. احنا مناح, اه طلعنا من البيت ورحنا على مخيم الشاطئ.. انقصف البيت اللي قبالنا وبعد يومين رجعنا على بيتنا..وين بدنا نروح؟ اه ابراهيم (صغير العائلة ) هيّو مغلبني .. بيتصرف كإنه كل شي عادي وبيضحك لما القصف ينزل عندنا بس أنا عارفة انه بكون مرعوب. اه والله الشباب مغلبيني كمان .. عامر ومصطفى بقولولي انهم رايحين  يصلوا التراويح في المسجد بس بروحوش يصلوا, بروحوا يتفرجوا.

دار عمي ساكنين على آخر طابق في عمارة بمنطقة تل الهوا. ويا حبذا لو قطعت الكهربا وينجبروا على صعود الدرج ليصلوا إلى شقتهم. مرت عمي روتلي عندما قرروا يخلوا البيت آخر مرة, كانت حاملة صغيرة العائلة رغد ويزيد ربط جسمه حول رجلها. البنات الثانيات سبقوهم بخطوتين ولحظة ما توجهت مرت عمي الى الدرج تكسر الشبابيك بوجهها من قوة الانفجار الذي اهتز العمارة كلها .

هذه المرة , يرفضون اخلاء بيتهم . اين سيذهبون؟ هذه المرة الثالثة في ستة سنوات و لن يسمحوا للاحتلال تعطيل حياتهم اكثر من ذلك. رغد ويزيد لا ينامون الا بجانب امهم . مستعدين يضلوا سهرانين طالما امهم لم تحيطهم بجسمها . هيا ودينا لا ينامون الا اذا الغرفة مضوية , واختهم الأكبر ندى متضايقة جدا من هذا الوضع. اخوهم ادهم يتصرف كأن القصف شيء عادي, لا تسترجوا تسألوه اذا مرة بحياته خاف او ما خاف , مفهوم؟

ستي لا تستطيع الوقوف من الخوف...لها قناعة أن هذا العدوان سيقتلها, وعندما كلمتها على الهاتف, بكت وأبكتني معها. ستي وجيلها لا يزالون يعانون من صدمة النكبة وكل الحروب بعد ١٩٤٨ومع كل قرقعة صوت او انفجار كبير تصرخ على ندى: اليهود! اليهود اجوا يقتلونا!

طلبت من ندى تبعثلي صورة ستي. ردّت علي: ايوة! عشان تتهمني انه رح اعطي صورتها لليهود!

مررتْ التليفون لستي.

-مش قادر, مش قادر, والله مني قادر..بضلهم فوق روسنا
-شدي حيلك ستي والله يقويك ويجمعنا عن قريب ان شاء الله..أول ما يفتح المعبر رح نكون عندك..حضري الحناء عشان نحنّي شعرنا..وتقوليلنا قصة مايا وابن السلطان..
-فش منه..فش منه
-شو هو اللي فش منه؟
-المعبر مسكر..بضله مسكر
-لا ان شاء الله يفتح. تفو على مصر وعلى كل العرب, بس رح يفتح.

بكت. صرت ارمي كلام في الهواء, وجبرت حالي امسك دموعي.

-الله يطعميهم يوم من حياتنا..وينتقم منهم ويوخدهم. هالمرة رح تعدي ستو, والله رح تعدي ورح تكون اخر مرة

تبكي وتبكي. انتهى الحكي. عندما ودعتني, اشعرت بنوع من الحسمية. (مع السلامة يما..الله يرضى عليكِ يما..الله يحنن عليكِ..مع السلامة حبيبتي.)

ستدفعون ثمن كل دمعة نزلت من عيني ستي يا أولاد الكلب. ستدفعون بحياتكم.

عمي الثاني في خانيونس. غرفتين نوم تحصن عائلته المكونة من عشر أفراد والسقف من الزينكو يهب وينزل مع كل قصف. عمي لا يحب ان يتحدث عن ايام العدوان لأنه يتأثر بشكل كبير عندما يرى اولاده متجمدين من الخوف او يصرخوا على طول اصواتهم. رأيت الألم في عينيه قبل ان قام بتغيير الموضوع. حنان تتحول لعمود صغير من الرخام. كل عضلات جسمها تتشنج وتفقد القدرة على التحرك تماما. فرح تبلغ من العمر سنتين ونص وهذه المرة الثانية في حياتها تشهد القصف المبرح. من مفردات لغتها الجديدة " دَبّة دبّة !" التي تلي كل انفجار.

اعترفت لعمي الأقرب على قلبي عن المظاهرات في لندن.

- بطلعوا بالالآف عمو .. مظاهرة يوم الجمعة كان فيها عشر الاف واحد. وثاني اسبوع  طلعوا تقريبا مئة ألف..بس بحبش اروح واعتبر انه وقفتي انجاز وافتخر بإنه هيني طلعت..مرّات بتقاتل مع الناس هناك...انا مش جاية اتضامن وانتو تحت القصف! بس فش اشي ممكن اعمله!

ضحك وقال: ومفكرة انه طالع بإيدينا نعمل اشي؟ بنضلنا محبوسين بالبيت نسمع ونصرخ وندعي.

-انتو عندكم المقاومة على الأقل

 -مزبوط..واحنا عندنا روح التحدي..يعني روح ال challenge زي ما بتقولوا عندكم في لندن..حتى الناس العاديين زينا بدهمش أي هدنة إذا طلعنا بصفر...شو بنستفيد اذا كمان سنتين اجالنا وزير (اسرائيل ) تاني قرر يقصفنا كمان مرة؟ الكل يترقب.

يوم العيد, عرفت اخر اخبار عمي في خانيونس. اخلى بيته مع اولاده الثمانية بعد ما قصف الاحتلال أرضه. تضرر البيت, ودبّر سيارة لكي يذهبوا إلى المخيم. الاحتلال قصف السيارة التي كانت أمامهم مباشرة. قُبض أرواح أصحاب السيارة الأولى, ووصل عمي وعائلته المخيم بنفسيات مهترئة.


الكل يترقب. أرواح الشهداء يترقبون. عائلة أبو جامع و أطفالهم ال١٨ يترقبون. الإم واولادها الثمانية من عائلة القصاص يترقبون. كنان وساجي الحلاق يترقبان. عائلة الكيلاني واولادهم الخمسة يترقبون. شهداء مجازر الشجاعية وخزاعة ورفح وجباليا وبيت حانون كلهم يترقبون.

No comments:

Post a Comment