Monday, July 6, 2015

رسالة من عاصمة أوسلو



الى عزيزتي عزيزة

(المقدمة المشروطة لأي رسالة)

أما بعد,
هل  تعلمين أن لغتي العربية الفصحى-سواء بالحديث او الكتابة-تطورت لدرجة أنني قطعت عهد مع نفسي ألا أطعن وأدنس هذه اللغة الجميلة بمحاولتي الركيكة لإستخدامها؟  لذلك-وكل الاحترام لعمنا سيبويه-سوف أكمّل حديثي معك باللغة المكسرة الشبه عامية. ولكن  لعلمك, سأستمر بشراء روايات عربية وقراءتهم على القطار في طريقي الى الشغل وأنا في لندن, لتبقى بصمة جذوري المسخمطة حلق في أذني وربما, اتسلل الى منصب المفكر النخبوي. يا له من طموح غاشم.

أما بعد,
بعد مرور سنتين او ثلاثة من انهيار الانسة أفنان ع. والانسة لينة س. الفاضح في مقهى سنديان, أجد نفسي جالسة على نفس الطاولة التي تزحلقنا من كراسيها الى الأرض نجعر على طول صوتنا ومرارا وتكرارا: واتس ذا بوينت؟ 

كنا نحيب ونقهقه, بما أن شر البلية ما يضحك, وننظر الى بعضنا بعيون مغبشة, نرتجف على حفة الحفرة الجهنمية التي اسمها  الرشد. الشيء الذي يضحك هو لو أننا عرفنا موقعنا وظروفنا الان, كان رحبنا وتمسكنا بتلك اللحظة بكل عنادة. فاليوم نجد أفنان تخلع طواحين في بلاد الفسق والفجور تحت راية ال سعود, تذهب بقهر من سجن الى سجن اخر. اما لينة, بعد ان خلعت مأزق صراع الهوية المبتذل, نجدها قد ادمنت على المحرمات  والأرق في عاصمة اوروبية مليئة بالحيوية وجفاف الدم,  تتعامل مع صدمة الموت المفاجئ واتساع ثقب الفراغ بجحشنة وعزل العالم.

اخ على زمن الخوالي يا عزيزة! اشتقنا لقضايا بسيطة تشغل بالنا..اشتقنا للسذاجة. واشتقنا ايضا الى شعور الهرولات على اكتافنا والصفعات على وجوهنا والمسبات الراقية من  ذخر الوطن, الجهاز الأمني. اشتقنا الى الحج حول دوار المنارة والصفا والمروى في شوارع رام الله ولذة البطولة والتحدي, افنان تهتف "يسقط يسقط حكم العسكر" ولينة تناشد الفدائي يعيد الكرة, يخطف جندي ويحرر أسرى.

اشتقنا لشعور البطولة المذوقة بعدم الإنجاز  في حياتنا. أكبر همنا كان ترك البلد لمدة كافية ونحررها بإرسال إشارات "تليباثيكية" للقطيع, لكي نعود ونركب موجة الإنتصار الوطنية والنسوية. الان نقول: كاف-سين أخت الحياة. نريد فقط المال والمزيد من المال لنفعل ما نريد- الأمر الذي ما زلنا نعاني منه بسبب  جهلنا على ما نريده بالفعل.

رجعت إلى البلد يا عزيزة لفترة قصيرة, في محاولة لترتيب أمور عائلتي, وحرق المزيد من الجسور. أتلهب بزيادة من داخلي من كرهي وشوفة الحال على كل ما له علاقة بالقوقعة التي اعتبرناها مرة ذرة النضال والنشاط. 

ضفت على منظري نظاراة شمسية كبيرة, تغطي نص وجهي-اللي قد التعريفة على رأي إمي المرحومة-ومشيت بالشوارع (اذا احتجت للمشي) دون الإعتراف على احد. إنني اختبئ من الواقع.

في ناس عمرهم ما بتغيروا. بياع الكعك على قرنة دوار المنارة مثلا. (الدوار والقرنة, ما في اشي منطقي.) الشحادين. المحلات. بياع القهوة الضريرالذي يردد-أهوة أهوة! مرة ابن خالتي المعنتر قال لي: هاد الزلمة وسخ بس بديش احكيلك قصته لإنك بنت. كل ما اعرفه أنه كان يشتغل بالإذاعة في غزة, ومحسوب على فتح, وتصاوب أيام معركة الحسم في ٢٠٠٧, ثم أتى إلى عاصمة أوسلو يبيع قهوة.

العمال على نفس حالتهم, وضعهم يتمواجى بين السيئ والأسوأ…النخبوية على نفس وضعهم, المفكرين على نفس وضعم, في نفس المقاهي, يتكلمون بشغف تحت مفعولٍ ما عن الديالكتيك والفساد وحراك الشارع, يقطفون أوراق الوهم لتغطية حياتهم الفارغة. والنشطاء مازالوا يتكتكوا على الكيبورد, في سبيل  الشهرة وكسب اللايكات والمتعة والمهنة المحبوبة عند الجميع, المزاودة. أما النشطاء الذين رأوا النور واستقالوا, فمنهم يتزوجون, او يفرون من البلد, أو يسمعون إلى موسيقى صوفية ويعاتبوا الاخرون على ذوقهم الوقح والمستشرق.

على رأي الشاعر:

لا تسأليني عن مخازي أمتي
ما عدت أعرف-حين أغضب
ما أريد
وإذا السيوف تكسرت أنصالها
فشجاعة الكلمات…لا تفيد!

اقترحتْ علي أختنا الفاضلة ريتا أ.غ صياغة رسالة لأفرّغ كل خراء بطني. ما عادت الكلمات تفيد, والحديث عن أيا كان ممل ومتكرر. لا أفضّل مراجعة أيام الخوالي, لأننا كنا على قد نيتنا الطيبة الساذجة لدرجة المياعة الساحقة. أكتب ما أريد, يوجد هناك غيري يكتبون عن الأمل والإفادة من التجربة وضرورة الخبرة وامتداد النفس الطويل وبركة الشباب وحلاوة الحياة. أعلم ذلك, هم يعيشون في واقع بستطيعون كتابة الهراء بإبتسامة, لكنني أريد أن أكتب بحدية لأفرّغ خراء بطني لأنني أحتاج إلى خروج شيطنة الطاقة المشحونة في رأسي والثقل المعدني في قلبي, حتى لو كانت بطريقة سادية. ربما أتمتع من جرح شعور الناس لأنني قادرة على جرحهم. إمي كانت طيبة ومحبوبة. أريد أن أكون مثلها. ما هو سر تحطيمي؟ الحديث عن إمي في صيغة الماضي. أريد فقط النوم. السعادة تمكث هناك.  أيهما أفضل, السعادة أم الراحة؟ هل السعادة تجر الراحة أم العكس؟ ما الفائدة من كل هذا..

لنبدأ من جديد, من أول الفقرة:  اقترحتْ علي أختنا الفاضلة ريتا أ.غ صياغة رسالة لأفرّغ كل خراء بطني.لا أفضّل مراجعة أيام الخوالي, لأننا كنا على قد نيتنا الطيبة الساذجة لدرجة المياعة الساحقة. هل تعلمي ما هي قمة المياعة يا عزيزة؟ أن نقول أو نشعر بأن كلمة "إسا" تؤدي إلى النشوة. كان بدنا طخ والله.

ما علينا. الحياة عبارة عن تجارب والإستفادة من مواقف سمجة وغلطات فاضحة.  فلتذهب إسا إلى ستين داهية, ولتبقى أراضي ال٤٨ محرومة منا للأبد…فالصراصير في حمامات موقف باصات تل أبيب ماخذين راحتهم هناك أكثر منا,الأمر الذي شاهدته بعيني. وشتم مدينة اليكا ستخرجنا من ملة شرفاء فلسطين الأبية.

تمسكت بنفسي وزرت بيتي. هل هذا معقول؟ من "يزور" بيته؟ أرعب الحارس بفرحته عندما رآني, عيونه مظللة بالحزن. أغلقت الباب ورائي, وسقطت على ركبي, كأن النفس قاطعني, وبكيت بحرارة. لففت يدي حول خصري واشتد البكاء إلى نواح, هذة هي ردة الفعل التي منعتها عن نفسي عندما دخلت البيت قبل ستة أشهر لألقي العزاء بوجهي. اخذت أفتح الخزائن كلها, اطوف بين الغرف حتى تملكني الغيثان. اسندت ظهري على الحائط, أتنفس بصعوبة, أفكر بقلبها الكبير, قلبها المتضخم. ثم غادرت, ونظاراتي الشمسية على وجهي مرة أخرى.

ماذا علي أن أفعله يا عزيزة؟ لا حياة هنا, ولا هناك. علقانين بين حملة متسكتنيش/متحركين/مكملين وحملة كل واحد حر بحاله. لا أعرف ما هي ترجمة ليمبو, والإنترنت نوّري بعدة مصطلحات: نسيان, ردهة, جهنم, لا يقين, موطن إهمال الليمبوس دهليز في جهنم, الخ.

ذهبت مع ح. إلى الحديقة السرية ومارسنا الرياضة واليوغا. جمعنا الصنوبر وحطمنا قشره تحت حجر. ثم جمعنا الحجارة وبدأنا رشق هدف غير معلّم. انفعلنا بزيادة, وأصبحنا نصرخ "الله أكبر" مع كل رمية, صوتنا يعلو وتهيجنا يكثر,نزعق ونرد على بعضنا-تحية لكتائب-عز الدين!. نرمي ونصرخ "قسام!"وننفجر من الضحك, ثم انطويت على َمدة تطل على المدينة, وصفنت وصفنت.

تخيلي لو سمعونا, قالت ح.

قبلها بليلة أو ليلتين, مشينا في الشوارع الخلفية بصمت ثقيل. قعدنا على رصيف الشارع وقالتْ: في اشي غريب مع الناس..بعرفش اذا دايما كانوا زي هيك أو احنا بنلاحظ أشياء عشان فش حدا ممكن يستوعب ايش بنْمُر فيه..في اشي غلط فيهم. صفنا وصفنا, والثقب زاد اتساعا.

أحاول أتجنب رام الله ودكاكينها. زيّنتْ سيارة عرسها من الوردة الحمراء. اشترتْ فستانها الخمري المخمل من هيليوبولس. كانت تشتري الكنادر الشتوية من  هذا المحل, والمعجنات من هناك.  في أشياء-غير الناس- ولا ممكن تتغير. صالون رائدة, قائم منذ التسعينات, منذ طفولتي. المساجد. القبور. 

مددت رأسي فوق ضريحها حتي كاد أنفي يلمس الحجر واسمها المنحوت تحت اسم أمها وهمست: رح أرجعلك ماما, سلام.

هذه هي الخلاصة يا عزيزة.  رح أرجعلها. أو بالفصحى, سوف أعود, وأنهي معركتي.

تحياتي

 ل.      




No comments:

Post a Comment