مدينة غزة, آذار ٢٠١٣ |
أبي عندي. ينتظر شغل جديد. برنامجنا عبارة عن الالتصاق باللابتوبات لمتابعة الأخبار كل دقيقة. نسينا نعاتب رمضان كما تعودنا في أول الاسبوع من هذا الشهر الفضيل. (أنا مش صايمة - أصلا الصيام حرام إذا بيشبه العذاب ونمتنع من الأكل لعشرين ساعة - مفروض نسافر على جنوب أفريقيا, الساعات هناك أقل - إذا صمت رح أفطر على توقيت القدس مش مكة لأنه فيها كفار ). نسينا كل هذا. قبل ساعة من الافطار نريّح اعيوننا نذهب الى المظبخ. عليه الطبخة الرئيسية -بامية, ملوخية, كشك - وأنا علي إحضار السلطة والشوربة. نفطر. والشاشات مازالت مفتوحة. بعدها, الأنشط منا يعمل القهوة ونقعد ونتحدث عن الأوضاع والسياسة, عن المقاومة, عن ستي, عن موشيه عباس.
- بقولك الصواريخ عبثية..في أكبر جاسوس من هيك؟ المتحدث الرسمي للاحتلال!
- كلب ابن كلب
- بابا, تستخدميش كلمة خرا أو فاك على تويتر, بيضر بسمعتك كصحفية
كل شيء بالتدريج. نجحت باستخدام إشارة البعبوص أمامه كلما نتكلم عن السلطة دون اي عقوبات او محاضرات: محمود عباس - خذ !- وجمال نزال - يوخذ هو الثاني - وعريقات - خذ خذ خذ!
المقاومة ترفع معنوياتنا. نغيّر كلمات اغاني صباح فخري ( ابعتلي صاروخ, صاروخ, صاروخ وفجّرني ) ونضحك زيادة عن اللزوم. أحاول أقرأ وأكتب رسالتي ولكن دون أي جدوى. اذهب الى غرفتي واشاهد فيديوهات القصف على بيوت الناس ومشاهد تعصر القلب مثل دموع وتضرع أبو ساهر النانوس فوق جثة ابنه ( جبتلك لعبة يا بابا!) وردة فعل الأم والأب بعد ما انكشف لهم اولادهم في ثلاجة المستشفى وصدى صراخ الإم يدوي في رأسي: يما يا اولادي يما! ردوا علي يما!سامحوني يما!
أبي سافر ليبدأ حياته مرة اخرى في بلد ما. عائلات بأكملها استشهدت سويا. حمد, البطش , كوارع, حلبي, الحاج, أبو دقة, أطفال عائلة بكر وعائلة شهيبة. عاهد وزكريا ومحمد واسماعيل بكر, أولاد عم..لقطتهم عدسة قناة فرنسية وهم يركضون بعد ما استهدفتهم أول قذيفة على شاطئ بحر غزة.. ومع إطلاق القذيفة الثانية لم نرَ سوى الدخان ..ثم أجسادهم الممزقة مرمية على الرمل مثل الدمى. قُضي على أربعة قلوب, ودُمّرت حياة ذويهم. صراخ ولطم وتكفير من أهاليهم.. العواطف الخامة تنطلق من حناجرهم..الثياب تشققت.. وبعد بيوم, ارتقوا فلّة وجهاد ووسيم إلى ربهم.. كانوا يلعبون مع الصيصان على سطح بيتهم. ما هي الفكرة من طيور الجنة يا الله؟ ما هي العبرة من أن تمتحن الأهالي بفقدان أطفالهم بأبشع طريقة ممكنة؟ أن يذوق الوالدان بطعم الصبر المرير؟
مشان الله, بيكفي. تخليش طائرات الموت تقتل أطفال
(( ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون ان كنتم مؤمنين ))
أخرج وأشاهد بزوغ الفجر - بعد ساعتين من فلسطين - وألاحظ التفاصيل الصغيرة في الشارع. كل عمود كهرباء مزين بالورد ولكن لم تنتبه إلا إذا رفعت رأسك.
لا أجرؤ على الاتصال بأهلي هناك. أركن ظهري على الحائط وأصل إلى مرحلة الانهاك. أفيق ويصيبني الفزع - اسم المرأة, اسمها, شو اسمها, اللي استشهدت في مبرة الرحمة؟
اسمها سهى. سهى أبو سعدة, ٤٧ سنة. من الاشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة. عندما عثروا على جثتها, كانت فاقدة لأحدى رجليها. علا وشاحة استشهدت في نفس الغارة على المبرة.
- يا ربي ارحمني
قصف عنيف. الخوف والعجز مرة أخرى. صفارات الإنذار تدوي في القدس وتل أبيب وحيفا. نفرح وينشرح صدرنا.
- إلي من مبارح ما نمت
هُدّمت البيوت. ألاف من الناس أخلوا مناطقهم وذهبوا إلى مباني وكالة الغوث. ادركنا بمعركة السودانية شمال غزة وكيف أوقعوا وحدة خاصة من الاحتلال في كمين نصبته القسام. نمشي بقامة منتصبة.
- خلصونا اقصفوا الدار, نعسااان
هذه ليست أمنية أنس قنديل. أنت تعلم ذلك يا الله.
(( بل احياء عند ربهم يرزقون ))
سهرت ليلة وفاتني آخر قطار. وقفت تحت أراضي المدينة بشكل ثابت وعمال الليل يراقبونني بطرف اعينهم. ركضت صديقتي على المحطة, مسكتني وجرّتني الى مكانها. اتابع الاخبار.
وصلت لمرحلة دنيئة جدا بسبب عدم القدرة على فعل اي شيء مؤثر, او التجميد بسبب الخوف, أو كره جزء ولو بسيط من نفسي, او الثلاثة. الأنانية مقززة.
لأول مرة نمت قبل طلوع الشمس. لم اتصل بعد. قلبي يدق يدق يدق.
No comments:
Post a Comment