"اصلا اسرائيل بتُقصف فينا في الشتاء عشان نتدفى .. قولوا عنها عاطلة ."
"عااااااطلة!"*
امي لها عادة مخصصة كلما تستنفر إسرائيل بغزة. مع كل عدوان, كانت تبسط أمام التلفاز ٢٤ ساعة. كنت أنام في سريرها بعد ما وضعت فرشة قبال التلفاز. في النهار, تجلس على الكنبة وتقلب بين قنوات الأقصى والجزيرة وفلسطين اليوم واحيانا الميادين, بينما تشتم قناة فلسطين ومسلسلاتها السخيفة ب ( ياخونة يا كلاب!) التي تتجاهل الوضع في غزة.
في الليل, تتمدد على الفرشة تحت البطانية وتشاهد الأخبار وصور المجازر لحد ما تطلع الشمس. بعد غفوة قصيرة تعيد الروتين ابتداءً مع فنجان القهوة, وأراقب تعمق الدوائر والسواد تحت عينيها يوما بعد يوم.
مرّات, تتصل وأنا في شغلي لكي تطمئن.
- وينك؟
- بالمكتب
- مطولة؟
- آه, رح أضلني لليل
- مفروض يدفعولك أكثر
- طيب
- تنسيش توكلي
أحياناً, بكذب وبقول اني في المكتب ولكن الحقيقة هي أنني أسير في الشوارع أحاول الفرار من المدينة الوسخة وسكانها. رام الله من أحقر المدن التي يمكن أن يعيش فيها الانسان. أهرب من شارع ركب ( سكروا محلاتكم يا كلاب , اللي استشهدوا مش أرقام, سكروا محلاتكم ) وأجد نفسي في منطقة المصيون , أو الطيرة أو بطن الهوا أو الشرفة أو البالوع. أبحث بشكل محموم عن ذرة من الاكتراث في وجوه الناس, ذرة من الغضب، ذرة من الكرامة. ولكن..تبقى بعيدة المنال.
- وينك
- أنا…بإجتماع
الحقيقة انني في طريقي إلى بيتونيا. وصلت سجن عوفر وأقف خلف الشبان الأقرب إلى البوابة والذين لا يزيد عددهم عن خمسة عشر. جنود الاحتلال موجودون هم أيضاً. اليوم بليد جدا. الجنود يشغلون أنفسهم برمي عدد من قنابل الغاز وقنابل الصوت بين الفينة والأُخرى. لا داعي للهتاف هنا. لا أعرف أحدا ولست خبيرة برمي الحجارة. عندما وصلت الأمور إلى ردح وشتائم بالعبري الموجهة الى الجنود من قبل الشباب, سحبت حالي ورجعت لوسط المدينة, اليأس مترسخ في عظامي.
أمّي لا ترى أي هدف من مسيرات رام الله, وكالعادة كنا نتجادل أنا واختي معها كلما خرجنا.
- هدول بدهم صواريخ, مش تروحي إنت وأختك على الهبل السلمي تبعكم وتهتفوا يلا ارحل يا احتلال
- طب اذا هتفنا يا قسام يا حبيب اضرب اضرب تل ابيب؟
- أحسن! عشان ييجوا يوخدوكم الكلاب. مش ناقصنا مصايب.
كنت أتضايق من موقفها رغم أنني متفقة معها, ولكن في ظل الظروف التي نعيشها، المسيرات البايخة كانت على ما يبدو الوسيلة الوحيدة للعمل. ما هو المانع من تحويل حاجز قلنديا العسكري الى ساحة نضالية؟ حاجز الخوف والسيطرة النخبوية. بعد كل مسيرة كنت أكره نفسي أكثر. نحن الأبناء المدللون لهذه المدينة الحقيرة التي تتضامن مع أهلها في غزة عبر الشموع والاحتجاج الحضاري والهتافات المؤيدة لدولة العملاء, دولة أيلول.
هذه المدينة.. كم أبغضها! كل يوم كنت أمشي جنب جدران المقاطعة لأصل بيتي.. ومع كل خطوة الكراهية تغلف حالها إلى كرات معدنية في حفرة نفسيتي. لا يأتيني النوم, وقبل أذان الفجر صوت التدريب ل " رجال الجدد " يصل بنايتنا وأنا أغلي, أغلي.
في عدوان ٢٠٠٨ - ٢٠٠٩ , خرجوا وانهالوا علينا بالهراوات والكلام البذيء والغاز. عدنا بعد المعركة وجرست امي بالمطبخ, رائحة الغاز تعشش في ملابسها ووجهها شاحب اللون.
-الله ينتقم منكم , الله يوخدكم ويريحنا منكم .. هدول بشر؟ هدول فلسطينيين؟
( هدول كلاب )
في عدوان ٢٠١٢ , كرّسوا في عقول المواطنين المهذبين الصالحين نمط التظاهر الحضاري ثم حولوه إلى تضامن حضاري متمركز في أوساط المدن بعيدا عن أماكن الاشتباك. خرجنا باتجاه مستعمرة بيت إيل وقمعونا. خرجنا مرة أخرى واخواتهم بالرضاعة, الاحتلال, ضربونا. في المرة الثانية, شاهدت أمي على التلفاز اعتقال أختي ولاحقا, الضرب الذي لحقت بي وبغيري.
وفي عدوان ٢٠١٤, تبين لي أن المسافة بين رام الله وغزة, ولندن وغزة هي نفسها. أسير بين الشوارع مرة أخرى, أفر من شعور العجز والخوف على أهلي, أتابع الأخبار, لا انام, الجبن يحتاجني, والحوار الداخلي يخلخل عقلي. اتصلي يا بنت, اتصلي بأهلك واطمئني عليهم. لأ, بديش. طالما فش اخبار يعني لساتهم عايشين. ولك اتصلي يا جبانة, اتصلي. خلص!
مسيرات هذه المدينة ايضا لا تختلف عن عاصمة أوسلو الا بالكم الهائل من المتظاهرين. هنا أيضا تحيط بنا الكلاب, ومساحة التظاهر محددة, ونعم لها وقت معيّن, والهتافات سلمية بايخة رقيقة مضجرة. القمع ليس موجود, ولا داعي له أصلا بما أننا نلتزم ونفرض على أنفسنا قوانين النظام الحاكم. أتشاجر مع الناس, افرز عصبيتي أخيرا بالذي رفع علم حزب الله, أمزع يافطة الشخص المعتوه الذي كُتب عليها "هتلر كان على حق", امتص جو الكرنفالي وصور ال"selfies" للمتظاهرين بالكوفية وعلم فلسطين المرسوم على وجوههم, وأكره نفسي. أحس بالعزلة. شعور العجز يتفوق. الاختناق يزيد. ولم اتصل بأهلي.
*تصريح عمي محمود عندما ذهبت الى غزة مباشرة بعد عدوان ٢٠١٢, والرد كان من الجميع في البيت
No comments:
Post a Comment